نتنياهو- هدنة غزة فرصة لإعادة التموضع، لا نهاية للصراع

في غمرة المحادثات الشائكة المحيطة بمبادرة المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، الساعية إلى هدنة مؤقتة في غزة وتبادل محدود للأسرى، أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تصريحًا كان متوقعًا إلى حد كبير، مؤكدًا على أن "الحرب ستستمر حتى بعد التوصل إلى اتفاق".
هذا الإعلان لا يمثل مجرد رأي عابر، بل يعكس منهجية راسخة في الفكر الإسرائيلي، وهي تحويل أي تفاهم إنساني إلى نقطة عبور تكتيكية في سلسلة الصراع الدامي المستمر، وليس كمدخل لتسوية منصفة وشاملة.
إن الشروط التي وضعها نتنياهو لإنهاء الحرب، والتي أعلن عنها مرارًا وتكرارًا، ترتكز على ثلاثة محاور رئيسية:
- أولًا، الإفراج عن جميع الرهائن، وهو مطلب يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمقترح ويتكوف بشأن تبادل الأسرى، إلا أنه يبقى معلقًا على موافقة حركة حماس على شروط إسرائيلية بالغة الصرامة.
- ثانيًا، تسليم حركة حماس لأسلحتها وإبعاد قادتها عن غزة، وهي مطالب تهدف إلى إضعاف القدرات العسكرية والسياسية للحركة بشكل كبير، بما يعكس استراتيجية إسرائيلية بعيدة المدى.
- ثالثًا، تطبيق خطة ترامب لإعادة توطين سكان غزة، وهي رؤية بعيدة الأمد ترمي إلى تغيير التركيبة السكانية للقطاع بشكل جذري.
اتفاق تكتيكي.. لا نهاية للصراع
إن إعلان نتنياهو عن استمرار الحرب حتى في حال قبول مقترح ويتكوف لا يعتبر تجاوزًا لسلوكه السياسي المعهود، بل يعكس فلسفة "إدارة الصراع" التي تميز العقيدة الأمنية الإسرائيلية.
فبالنسبة لنتنياهو، لا يعتبر المقترح "خريطة طريق نحو السلام"، بل هو مجرد "محطة" لاستعادة الرهائن من جهة، وإعادة تنظيم الصفوف أمام الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، واستعادة احتكار طاولة المفاوضات وإعادة ترتيب أوضاع الجيش والسياسة من جهة أخرى.
وفي كلمته الأخيرة، عاد نتنياهو لتكرار لازمة "حماس عدو يجب القضاء عليه"، رابطًا أي هدنة – حتى وإن كانت إنسانية – بضرورة إضعاف المقاومة الفلسطينية، وليس بالتوصل إلى حل شامل للأزمة.
وفي مؤتمر صحفي عقده بتاريخ 21 مايو/ أيار 2025، ربط نتنياهو بشكل صريح بين إنهاء الحرب وتنفيذ خطة ترامب لإعادة هندسة التركيبة السكانية لسكان غزة، إضافة إلى شروط يرى أنها مستحيلة التحقيق، مثل تسليم حماس للأسلحة وإبعاد قادتها. هذه الشروط ليست مجرد أوراق للمساومة، بل هي إشارة واضحة إلى أن الحرب لن تنتهي، مهما تعددت "وقفات" إطلاق النار.
ومع ذلك، لا يمكن النظر إلى تصريح نتنياهو الحالي بمعزل عن سياق تاريخي طويل الأمد من "إدارة الصراع" التي تبنتها إسرائيل. فمنذ اتفاق أوسلو في تسعينيات القرن الماضي، اتبعت الحكومات الإسرائيلية تكتيك استخدام أي اتفاق مؤقت كوسيلة لإعادة ترتيب أوراقها، وليس كمدخل لتسوية شاملة. فعلى سبيل المثال، هدنة عام 2014، على الرغم من أنها أوقفت القتال مؤقتًا، إلا أنها مهدت لاحقًا لتشديد الحصار وتوسيع نطاق الاستيطان في الضفة الغربية.
واليوم، يعيد مقترح ويتكوف إنتاج هذا النمط المتكرر. فبدلًا من أن يكون "هدنة إنسانية"، يتم استخدامه كغطاء لإعادة انتشار الجيش وتجديد الشرعية السياسية. هذه العقلية الإسرائيلية، التي تجمع بين التوجه "العسكري" و"التسويف"، تتعامل مع أي اتفاق كوسيلة لتحقيق أهداف توسعية، وليس لحل الصراع بشكل جذري.
غياب الضمانات.. فراغ يخدم نتنياهو
ما يزيد من خطورة هذا التصريح هو أن مقترح ويتكوف نفسه يفتقر إلى أي نص ملزم بوقف نهائي للعدوان. فالتسريبات التي نشرتها وكالة رويترز (29 مايو/ أيار 2025) تكشف أن الاتفاق يقتصر على وقف إطلاق نار مؤقت وتبادل جزئي للأسرى، دون أي التزام بانسحاب كامل من غزة أو خطة لإعادة الإعمار بشكل جدي.
كما أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد أعلن عن دعمه للاتفاق، لكنه لم يقدم ضمانات حقيقية طويلة الأمد. هذه الثغرات تمنح إسرائيل هامشًا واسعًا لاستئناف العمليات العسكرية في أي لحظة، بالاعتماد على ذريعة "التهديد الأمني" أو "عدم الامتثال الفلسطيني".
وهكذا، يتحول غياب الضمانات إلى سلاح فعال في يد نتنياهو:
- إظهار "إنجاز إنساني" باستعادة الرهائن لكسب تأييد الرأي العام الداخلي والدولي.
- الاحتفاظ بحرية العودة إلى الهجوم العسكري متى شاء، دون التعرض للمساءلة أو الالتزام بأي شروط.
- مقايضة المساعدات الإنسانية بالوضع العسكري، وهي بداية لترويض الوجود العسكري، وهو أحد أهم أهداف "عربات جدعون".
وهنا تظهر مقارنة واضحة مع اتفاقيات أوسلو أو هدن عام 2014، حيث استغلت إسرائيل غموض النصوص لتعزيز سيطرتها ونفوذها.
توظيف سياسي: فرصة لكسب الوقت وإعادة التموضع
إن تصريحات نتنياهو لا تُقرأ فقط في سياق عسكري، بل تحمل بُعدًا سياسيًا داخليًا واضحًا. فهو يواجه ضغوطًا هائلة من عائلات الرهائن، بالإضافة إلى مظاهرات ضخمة في تل أبيب والقدس. وبالتالي، فإن الموافقة على المقترح تمنحه فرصة لتخفيف هذه الضغوط مؤقتًا، ليظهر كقائد "براغماتي" يحقق "تحرير الرهائن"، مع الحفاظ في الوقت نفسه على خطابه المتشدد.
هذا الموقف يرضي على الأرجح شريكيه في الائتلاف الحكومي – إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش – اللذين يهددان بسحب الثقة من الحكومة إذا شعرا بأي تنازل. وفي الوقت نفسه، يكسب نتنياهو دعمًا من إدارة ترامب، التي تتبنى مشروع إعادة توطين سكان غزة كوسيلة لتصفية القضية الفلسطينية.
والملفت للنظر أن استطلاعات الرأي الإسرائيلية تكشف عن تناقض يستغله نتنياهو ببراعة: حيث يؤيد 70% من الإسرائيليين إنهاء الحرب، لكنهم في الوقت نفسه يعارضون قيام دولة فلسطينية. كما يدعم 80% منهم خطة ترامب لتوطين سكان غزة (The New Yorker, 2025).
من خلال هذا التناقض، يستطيع نتنياهو تمرير المقترح باعتباره "هدنة إنسانية" تخفف الضغط الدولي، دون تقديم تنازلات سياسية جوهرية.
ويتضح هذا التوظيف السياسي للاتفاق أيضًا في لغة نتنياهو، حيث يستخدم عبارات مثل "המשך המאבק" همشيخ همأفاك (مواصلة النضال) لتعزيز صورته كقائد قوي يرفض الاستسلام أمام "العدو".
هذه اللغة تتردد في وسائل الإعلام الإسرائيلية، مثل صحيفة يديعوت أحرونوت، التي نقلت عنه تأكيده على أن "القوة العسكرية المتزايدة" هي الأداة الأساسية لتحقيق الأمن. هذا الخطاب يخدم هدفين: تعزيز الدعم الداخلي وتبرير استمرار العمليات العسكرية.
أصوات نقدية إسرائيلية: "مستنقع الاستنزاف"
بالموازاة مع هذا الخطاب الرسمي، تشهد المؤسسة الأمنية الإسرائيلية نفسها حالة من التباين بشأن جدوى استمرار الحرب دون أفق سياسي واضح. ففي مقال نشر في صحيفة يديعوت أحرونوت، حذر اللواء احتياط عاموس يدلين من مغبة التورط فيما أسماه "مستنقع الاستنزاف"، داعيًا إلى تبني مقاربة "الانتصار الذكي" كبديل أكثر واقعية: "علينا أن نحدد بدقة أين تنتهي العمليات العسكرية وأين تبدأ التسوية السياسية الشاملة... وإلا سندفع ثمنًا أكبر مما نتوقع".
إن ما يقترحه يدلين يمثل نموذجًا "إسرائيليًا تقنيًا"، ولكنه يقترب من الواقعية الاستراتيجية: حيث يقوم على إنهاء الحرب فورًا مقابل استعادة جميع الأسرى، مع اشتراط أن تكون إعادة إعمار غزة مشروطة بسحب سلاح حماس، وبمشاركة عربية وأمريكية وفلسطينية (السلطة).
والأهم من ذلك، أنه يفتح الباب أمام مسار "تسوية جديدة" تعترف ضمنيًا بأن إسرائيل وحدها عاجزة عن إنهاء حماس عسكريًا. ولكن هذا الخيار يصطدم بمعضلة واضحة: ففي ظل الوضع السياسي الحالي، لا يوجد في الحكومة الإسرائيلية من يمتلك الإرادة الحقيقية لفتح مسار سياسي مع أطراف عربية وفلسطينية؛ حيث يعتبر نتنياهو وبن غفير وسموتريتش أي شراكة إقليمية تنازلًا وجوديًا، بينما يفضل اليمين الديني سياسة "الاستنزاف" على أي تسوية سياسية حقيقية.
فكما نبه الصحفي نداف شرغاي، في مقالة نشرت في صحيفة يسرائيل هيوم (26 مايو/ أيار 2025)، إلى أن استمرار الحرب بعد صفقة الرهائن قد يفتح أمام إسرائيل "أزمة أخلاقية واستراتيجية" مع المجتمع الدولي، مشددًا على أن استمرار العمليات العسكرية دون أفق سياسي واضح من شأنه تقويض "ما تبقى من شرعية الحرب"، سواء داخليًا أو خارجيًا.
تظهر هذه المواقف النقدية من داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية إدراكًا متزايدًا لفشل سياسة "الإدارة الدموية" في تحقيق الاستقرار الحقيقي.
وهي مواقف تضع تصريحات نتنياهو في سياقها الصحيح: كإعلان صريح عن رفض أي تسوية شاملة، وتأكيد جديد على أن ما يُقدم على أنه اتفاق إنساني ليس سوى ذريعة لمواصلة حرب مفتوحة، وإطالة أمد الأزمة على حساب الفلسطينيين وأمن المنطقة بأسرها.
إعادة تشكيل غزة وتجاهل الحقوق الفلسطينية
من منظور إقليمي أشمل، يكشف تصريح نتنياهو وإصراره على مواصلة الحرب عن أن الهدف ليس فقط "إضعاف حماس"، بل إعادة رسم الواقع الفلسطيني والديمغرافي في غزة.
وبدعم من خطة ترامب المثيرة للجدل، تتحول غزة إلى حقل تجارب لسياسة إعادة هندسة ديمغرافية قسرية، في ظل غياب ضغط دولي حقيقي. وإدارة ترامب، على الرغم من دعواتها المتكررة إلى اتفاق "شامل"، تبدو عاجزة - أو غير راغبة - عن فرض ضمانات أو مساءلة.
وهكذا، يتضح الهدف الاستراتيجي الحقيقي لنتنياهو: إدامة الحرب لترسيخ هيمنة إسرائيل على القطاع، والقضاء على أي أفق حقيقي لحق الفلسطينيين في تقرير المصير.
في نهاية المطاف، يجسد تصريح نتنياهو بمواصلة الحرب بعد أي "اتفاق إنساني" فلسفة إسرائيلية راسخة ومتأصلة لدى نتنياهو نفسه: وهي أن كل هدنة هي فرصة لإعادة التموضع والتحسين عسكريًا وسياسيًا، وليست بأي حال من الأحوال بوابة نحو السلام.
إن غياب الضمانات، وتوظيف الاتفاق لكسب الوقت، وتحويل كل وقف لإطلاق النار إلى خدعة تكتيكية، كلها عناصر تكشف بوضوح أن مقترح ويتكوف ليس سوى حلقة جديدة في مسلسل "إدارة الدم" الإسرائيلي المأساوي.
وما هي النتيجة المحتومة؟ استمرار معاناة الفلسطينيين، وإطالة أمد أزمة غزة، وإبقاء المنطقة بأسرها أسيرة لحسابات إسرائيلية ضيقة الأفق لا ترى في الحرب سوى وسيلة دائمة للهيمنة والتوسع.